أكتوبر 1973 إنتصار الإرادة المصرية على أساطير التوراة
لواء أ٠ح دكتور: أحمد عبد البر
فى الذكرى الثانية والخمسين لحرب أكتوبر 1973، تقف مصر اليوم لتستعيد واحدة من أعظم لحظات تاريخها المعاصر، لحظة لم تكن مجرد نصر عسكري فقط، بل كانت اختبار حضاري لإرادة أمة بأكملها، وإعادة صياغة لمعادلات القوة في الشرق الأوسط، كانت حرب اكتوبر كتابة للتاريخ وتحطيم لمنظومة طويلة من الأوهام السياسية والعسكرية التي روّجت لها إسرائيل لعقود طويلة.
لقد جاءت هذه الملحمة العسكرية لتثبت أن التخطيط المحكم والعقيدة الوطنية الراسخة قادران على إعادة تشكيل الجغرافيا والسياسة والوعى، مهما بلغت قوة وتفوق الخصم ومهما حاول أن يستند إلى دعم دولى غير محدود أو نصوص دينية مزعومة.
إن دراسة تفاصيل تلك الحرب تكشف عن منظومة معقدة من التخطيط والتمويه الاإستراتيجيى، فقد واجهت مصر قبل الحرب واقع بالغ التعقيد، فبعد هزيمة 1967 ترسخت فى العقل الغربى والإسرائيلى صورة أن الجيش الإسرائيلى جيش لا يُقهر، وأن قناة السويس وخط بارليف يمثلان حاجز منيع يستحيل إختراقه؛ لكن القيادة المصرية بقيادة الرئيس أنور السادات ورجال القوات المسلحة، قررت أن تخوض معركة وجود، لا مجرد محاولة لإستعادة أرض محتلة، ومن هنا جاء التخطيط طويل المدى الذى استند إلى فهم عميق لميزان القوى ولعلوم المفاجأة الإستراتيجية، على الرغم من الرقابة الإستخباراتية الدقيقة التى كان يفرضها العدو؛ فقد تم إعداد الجنود نفسياً وتأهيلهم عملياً، وتم إستخدام أدوات تمويه محكمة حتى لحظة الهجوم، وعندما انطلقت ساعة الصفر، كانت مصر تقدم للعالم درس عملى فى فنون حرب الأسلحة المشتركة، إستخدام مدافع المياه لفتح الثغرات فى خط بارليف، التنظيم المحكم لعبور مئات الآلاف من الجنود والمعدات عبر القناة، والسيطرة على الضفة الشرقية وإقامة رؤوس الكبارى فى ست ساعات فقط، هذه الدقة لم تكن صدفة، بل ثمرة تخطيط إستراتيجى متقن تجاوز التوقعات وفرض على العالم الإعتراف بأن المقاتل المصرى قادر على قلب الموازين وتغير الخرائط الذهنية.
وإذا كان النصر العسكرى قد أعاد لمصر والأمة العربية ثقتها بنفسها، فإنه فى الوقت نفسه مثّل صدمة كبيرة للمجتمع الإسرائيلى، ليس فقط على مستوى الميدان، بل أيضاً على مستوى المعتقدات الدينية التى شكلت أساس العقيدة العسكرية.
فمنذ عقود يوظف قادة إسرائيل وعلى رأسهم نتنياهو، النصوص التوراتية فى خطابهم السياسى والعسكرى، وكأنها صك ضمان من الله بالتفوق والإنتصار، يتلو نتنياهو أسفار التوراة ليبرر ميولة الإستعمارية، وليوحى بأن كل خطوة سياسية أو عسكرية هى إمتداد لوعد إلهى، فى محاولة لإضفاء شرعية تاريخية ودينية على واقع إستيطانى عدوانى دموى؛ لكن المفارقة أن التوراة نفسها تحمل بين طياتها نصوص تكشف عن خوف دفين وضعف متجذر أمام الأعداء الأقوياء، ففى سفر التثنية (28:65-66) نقرأ: «وفى تلك الشعوب لا تطمئن، ولا يكون قرار لقدمك، بل يعطيك الرب هناك قلباً مرتجفاً وكلال العيون وذبول النفس، وتكون حياتك معلقة قدامك، فترتعد ليلاً ونهاراً، ولا تأمن على حياتك»؛ هذه الكلمات تصف حالة من الهلع والقلق المستمر، وهى ذاتها التى سيطرت على جنود الإحتلال فى خنادقهم أمام بسالة وإقدام المقاتل المصرى، الذى لم ترهبه الدبابات ولا الطائرات ولا الأساطير الإعلامية.
وفى سفر العدد (13: 31-33) يرد: «لا نقدر أن نصعد إلى الشعب لأنهم أشد منا… قد رأينا هناك الجبابرة بنى عناق… فكنا فى أعيننا كالجراد وهكذا كنا فى أعينهم»، النص يعكس بوضوح حالة العجز الذاتى والشعور بالدونية أمام العدو، وهو ما يترجم فى الدراسات العسكرية الحديثة بمصطلح “إسقاط الضعف النفسى على ميزان القوة”، الأمر هنا ليس مجرد تقييم موضوعى لقوة العدو، بل إدراك ذاتى مهزوز يفقد الجيش إرادة المواجهة.
أما سفر التثنية (20:8) فينص على «من هو الرجل الخائف والضعيف القلب، فليذهب ويرجع إلى بيته لئلا تذوب قلوب إخوته مثل قلبه»، هذه العبارة توضح أن المشرّع التوراتى أقر بأن الجبن متجذر، وأن الخوف قابل للإنتشار بين الجنود كعدوى إجتماعية، فى المفهوم العسكرى الحديث يمكن تصنيف ذلك ضمن حرب المعنويات، حيث يكون التفكك النفسى أخطر من التفوق العسكرى.
ويظهر بُعد آخر فى سفر العدد (14: 1-4): «فبكى كل الجماعة وصرخ الشعب تلك الليلة… وقال بعضهم لبعض: نقيم رئيساً ونرجع إلى مصر»، هذا الميل للعودة إلى العبودية بدلاً من خوض مواجهة يعكس ما يمكن تسميته بـعقلية الاستسلام التاريخى، وهو ما يفسر سلوكيات الإنسحاب والرفض للقتال كلما شعر الإسرائيليون أن ميزان القوى لا يضمن لهم نصر سريع.
كذلك ارتبطت الإنتصارات فى المخيال التوراتى بالمعجزة لا بالمناورة العسكرية، ففى سفر يشوع (6: 2-5) تسقط أسوار أريحا بالنفخ فى الأبواق والدوران حول المدينة، وفى سفر الخروج (17:11) ترتبط نتيجة الحرب مع عماليق برفع موسى يده «وكان إذا رفع موسى يده أن إسرائيل يغلب، وإذا خفض يده أن عماليق يغلب»، هذه النصوص تكشف اعتماد على الميتافيزيقى بدلاً من بناء عقيدة عسكرية علمية، وهو ما زرع فى العقل الجمعى الإسرائيلى ميل لإستخدام التفوق الخارجي (سواء كان معجزة قديماً أو دعم غربى حديثاً) لتغطية العجز الداخلى.
لقد جاء المقاتل المصرى ليجسد النقيض التام، إرادة صلبة، عقيدة وطنية، وشجاعة فردية تحولت إلى قوة جماعية، وفى اللحظة التى عبر فيها أول جندى القناة ورفع العلم على الضفة الشرقية، كان يكتب فصل جديد يرد عملياً على كل خطاب توراتى يدّعى التفوق الأبدى، ولعل هذا ما يفسر الذعر الذى إجتاح القيادة الإسرائيلية، حتى أن جولدا مائير وصفت تلك الساعات الأولى بأنها أخطر أيام إسرائيل منذ قيامها، لم يكن الخوف فقط من خسارة الأرض، بل من إنهيار السردية التى بُنى عليها الوعى الإسرائيلى.
أضف إلى ذلك أن حرب أكتوبر لم تكن حدث إقليمى محض، بل كان لها أبعاد دولية عميقة، فقد أجبرت الحرب القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والإتحاد السوفيتى، على إعادة النظر فى إستراتيجياتهما بالمنطقة، وللمرة الأولى منذ عقود وجدت واشنطن نفسها مضطرة إلى التدخل العاجل لإنقاذ حليفها الإسرائيلى عبر جسر جوى ضخم، بينما فرض العرب سلاح النفط كورقة ضغط إستراتيجية قلبت موازين الإقتصاد العالمى؛ لقد أثبتت الحرب أن مصر ليست مجرد دولة إقليمية، بل فاعل دولى قادر على إعادة صياغة التوازنات.
إن الرسالة الأهم التى قدمتها حرب أكتوبر للعالم، ولإسرائيل على وجه الخصوص، أن الإعتماد على النصوص الدينية كسند إستراتيجى لا يمكن أن يصمد أمام عقيدة قتالية متجذرة فى الوطنية والحق، وإن التهديدات التى يطلقها نتنياهو اليوم وهو يستشهد بالتوراة فى خطاباته ليست إلا تكرار لمحاولة فاشلة لإحياء سردية هُزمت بالفعل على ضفاف القناة، فالتوراة التى يحاول توظيفها لتبرير العدوان والتطهير العرقى تحمل فى ذاتها ما يكشف هشاشة شعبه وجيشه إذا ما واجهوا خصم يؤمن بقضيته ويقاتل دفاعاً عن وجوده.
وفى الذكرى الثانية والخمسين لهذه الملحمة، يتأكد لنا أن أكتوبر لم يكن مجرد حدث عابر فى تاريخ الصراع، بل هو نقطة تحول إستراتيجى وفكرى، لقد أثبت أن مصر قادرة على قيادة التغيير فى المنطقة، وأن المقاتل المصرى الذي زرع الرعب في قلوب خصومه سيبقى رمز للرعب فى العقل الإسرائيلي، كما أثبت أن العالم يتغير حين تفرض الإرادة الوطنية نفسها، وأن كل نص توراتى يلوّح به نتنياهو لا يستطيع أن يمحو حقيقة أن الجيش المصرى قد دخل فى قلب الوعى الإسرائيلى ككابوس دائم.
وهكذا يظل أكتوبر علامة فارقة، ليس فقط لأنه انتصار عسكرى، بل لأنه أعاد تعريف مفهوم النصر ذاته، وجعل من مصر نموذج للأمة التى تستطيع أن تحول الإيمان والتخطيط إلى قوة إستراتيجية تُعيد صياغة التاريخ، وفى هذه الذكرى الخالدة نؤكد أن إرث أكتوبر ليس مجرد صفحة من الماضى، بل هو بوصلة للمستقبل، تؤكد أن هذا الوطن قادر دائماً على مواجهة التحديات وصناعة النصر.
