نداء السماء
بقلم: أحمد مختار
في زمن تُقاس فيه الأشياء بوحدات صارمة، يحكم العالم منطق الأوزان والمعايير، الحديد يُقاس بالطن، الذهب بالجرام، الوقت بالدقائق، والنجاح بالأرقام. كل شيء حولنا بات محاطًا بإطار رقمي، بقالب كمي لا يعترف بالمشاعر ولا بالنوايا. ومع ذلك، تظل هناك رحمة من نوع آخر، رحمة لا تخضع لهذه الحسابات، ولا تُوزن على هذه الموازين. إنها رحمة الله، التي تعمل خارج نطاق الأرقام، وتتجاوز منطق المقاييس البشرية، وتُقاس بما هو أرق وأدق من كل ما نعرف، تُقاس بذرة. نعم، بذرة واحدة. قال تعالى: “وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ” (يونس: 61)
الرحمة التي تسبقنا جميعا
قبل أن نُولد، كانت رحمة الله معنا. قبل أن نخطئ، سبقتنا مغفرته. قبل أن ندعو، وصلت إلينا استجابته. قال الله تعالى في الحديث القدسي: إن رحمتي سبقت غضبي. وهذا ليس تعبيرًا مجازيًا، بل حقيقة تُثبتها كل لحظة في حياتنا، شفاء لم نتوقعه، رزق جاء من حيث لا نحتسب، نجاة من مصيبة كادت تفتك بنا، راحة مفاجئة في منتصف الألم. رحمة لا تحتاج إلى مبررات ولا شروط، تأتي إلينا كما يأتي المطر، تطرق أبواب قلوبنا دون استئذان، تسري في دواخلنا في اللحظات التي نظن فيها أننا على حافة الانهيار.
قيمة الذرة الواحدة
في عرف السماء، لا يُستهان بالذرة. الذرة من الخير قد تغير قدرك، وقد تفتح لك أبوابا لم تظن أنها ستفتح. والذرة من الشر قد تحجب عنك فيضا من الرحمة، وقد تغلق بابا كنت على وشك العبور منه. القرآن واضح في هذا: “فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ” (الزلزلة: 7–8). لذلك لا تحقر من المعروف شيئا، كما أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق، أو ترفع حجرا من طريق، أو تمنع أذى عن إنسان، أو حتى تبتسم لطفل دون سبب. فذرة صدق قد تصعد بك، وذرة كبر قد تردك.
الفرصة التي لن تنتظر طويلا
نحن نعيش اليوم، والغد ليس في أيدينا. نؤجل التوبة، نرحل النية، ونقول غدا، وكأن الغد مضمون. لكن الحقيقة أن هناك بابا مفتوحا، بابا من رحمة الله، لكنه لا يبقى إلى الأبد مفتوحا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. وهذا يعني أن هناك لحظة، إذا بلغناها، أغلق الباب، ولم يعد هناك رجوع. الباب لا يُغلق بصوت عال، بل يُغلق بصمت، بصمت لا يمكن كسره. ولذلك فإن التأجيل في أمر العودة إلى الله هو أخطر ما يمكن أن نفعله بأنفسنا، لأنه ببساطة يضعنا على حافة الخطر دون أن نشعر.
كيف نعبر الباب قبل أن يُغلق
العبور ليس مهمة مستحيلة، وليس معقدا كما نظن. ليس مطلوبا منك أن تكون شيخا أو عابدا أو عالما، فقط أن تكون صادقا في نيتك، صافيا في توجهك. العبور يبدأ بالتوبة النصوح، توبة تمحو ما قبلها، وتعني أنك أدركت خطأك وعدت إلى الله بعين دامعة وقلب نادم، لا يهم كم ذنبا ارتكبت، بل كم صدقا تحمله توبتك. ثم تأتي الصلاة، فهي ليست مجرد حركات وأوقات، بل صلة ثابتة بين العبد وربه، مواعيد حب لا تُلغى، نافذة يومية تطل على الطمأنينة. وبعدها يأتي ذكر الله، فليس للقلوب حياة إلا بذكره، هو الأكسجين الحقيقي للروح، وهو السكينة التي تنزل في اللحظة التي تردد فيها سبحان الله من أعماقك. ولا تنس بر الوالدين، فهو باب لا يُعوّض إذا أغلق، كل لحظة بر هي دعاء مستجاب، وكل دعاء من قلب أم أو أب، قد يرفعك درجات لا يبلغها صيامك ولا قيامك. وأخيرا، ازرع الصدقة والعمل الصالح، فهي استثمار لا يخسر، وما تقدمه من خير في الخفاء، قد يكون أثقل في الميزان من جبال.
لا تنتظر الإغلاق
نحن في زمن متسارع، يمضي فيه الوقت كأنه يتسرب من بين أصابعنا. كل لحظة تأخير هي احتمال أن نصل متأخرين. الله سبحانه يقول: “فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ” (الذاريات: 50). لا تنتظر الإشارة الأخيرة، لا تركن إلى وهم ما زال في العمر متسع، لأن الوقت لا يخبرك متى يضيق، والباب لا يُنذر قبل أن يُغلق.
الختام: الذرة هي المقياس
قد نظن أن الأوزان الكبرى هي ما يُحدد المصير، لكن السماء لها منطق آخر، منطق الذرة. ذرة صدق، ذرة دمعة، ذرة تسبيح، ذرة إحسان، كلها موازين ثقيلة في الحساب الإلهي. في عالم تُقاس فيه الأشياء بأحجامها، يقيس الله نواياك، وهمساتك، وأدعيتك الصامتة، وخفايا أعمالك. الباب مفتوح الآن، لكنه لن يبقى دائما كذلك. اعبر قبل أن يُغلق الباب، فربما تكون الذرة التي تلقيها اليوم في ميزانك، هي التي تنقذك غدا، حين لا ينفع مال ولا بنون.