ابق واقفا… حتى وأنت تنسحب
بقلم: أحمد مختار
في عالم السياسة، حيث تتلاطم الأمواج وتتصادم المصالح، يروج البعض لفكرة أن الانحناء هو سبيل النجاة، وأن المرونة تعني التنازل المؤقت من أجل مكاسب مستقبلية. هذه الفلسفة، التي تختزل في عبارات مثل “انحن لتسير” أو “Bow to go”، قد تبدو للوهلة الأولى منطقية، بل وحكيمة في بعض السياقات، لكنها تطرح سؤالا جوهريا: هل كل تقدم يستحق أن ندفع ثمنه كرامتنا ومبادئنا؟
التاريخ لا يذكر فقط أولئك الذين انحنوا ليعبروا، بل يخلد أولئك الذين وقفوا شامخين رغم العواصف. جورج واشنطن لم ينحنِ أمام التاج البريطاني، بل اختار المواجهة من أجل استقلال أمريكا، غاندي لم يهادن الاستعمار، بل قاومه بسلمية لم تتنازل عن حق شعبه في الحرية، توماس جيفرسون جسد مبادئ الحرية في إعلان الاستقلال، وسقراط فضل الموت على أن يتخلى عن حقيقته، هؤلاء لم يكونوا مجرد قادة، بل أصبحوا رموزا للثبات، لأنهم فهموا أن بعض المواقف تستحق أن تظل فيها واقفا، حتى لو كان الثمن باهظا.
وفي منطقتنا العربية، تتردد أصداء هذه المواقف بقوة. جمال عبد الناصر وقف أمام القوى العظمى، رافضا أن تكون مصر تابعة أو ضعيفة، فبنى دولة مستقلة تحمل راية السيادة. صدام حسين، رغم كل الجدل حوله، ظل متمسكا بمواقف رفض فيها الخضوع للإملاءات الخارجية، حتى في أحلك لحظات الحصار، والشعب الفلسطيني، الذي ما زال يقاوم منذ عقود، يرفض أن يتنازل عن حقه في أرضه وكرامته، رغم كل محاولات التهميش والإقصاء، هؤلاء جميعا اختاروا أن يبقوا واقفين، لأنهم آمنوا أن الوقوف بكرامة، حتى في لحظة الانسحاب، خير من السير على الركب.
السياسة ليست لعبة مصالح فحسب، بل هي أيضا معركة مبادئ، الكرامة ليست رفاهية، بل هي أساس القيادة الحقيقية، والمبادئ ليست قيودا، بل هي الضوء الذي يهدي في ظلام المناورات والخدع، عندما تختزل السياسة في مجرد تكتيكات ومساومات، تفقد روحها، وتتحول إلى سوق للمقايضة، حيث تُباع القيم بأبخس الأثمان.
لذلك، في زمن يتبارى فيه الكثيرون في التنازل والانحناء، تذكر دائما أن العظمة الحقيقية تكمن في القدرة على البقاء واقفا، لا تكن ذلك الذي ينحني ليكسب خطوة، بل كن الذي يظل شامخا حتى وهو ينسحب، لأن في النهاية، التاريخ لا يحفظ أسماء المنحنين، بل يخلد أولئك الذين وقفوا، حتى عندما كان العالم كله يطلب منهم أن يجثوا على ركبهم.
ابق واقفا… حتى وأنت تنسحب.