الاعتراف الخفي
بقلم: أحمد مختار
في زمن كثرت فيه المشاريع الفكرية التي تدعي التقريب بين الأديان، يطل علينا مصطلح جديد بلباس ناعم وأهداف خفية: “الدين الإبراهيمي”.
تحت هذا الاسم الهادئ تطرح فكرة ظاهرها الوحدة والسلام، وباطنها الالتفاف على الحقيقة الكبرى التي لا يمكن طمسها مهما حاولوا: أن الإسلام هو الدين الإبراهيمي الحق، والخاتم الذي جاء مصححا ومكملا لما قبله.
لقد أدرك الغرب ومعه المؤسسات الدينية الكبرى في اليهودية والمسيحية أن الإسلام ليس دينا منفصلا أو غريبا عن مسار الوحي، بل هو الامتداد الطبيعي لعقيدة إبراهيم عليه السلام.
لكن الاعتراف بذلك صراحة يعني الاعتراف بأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء، وأن الرسالة اكتملت، وأن ما عداها أصبح تراثا منقوصا لا يقوم على التوحيد الخالص.
ولذلك اختاروا طريق الالتفاف، فابتكروا مصطلح “البيت الإبراهيمي” أو “الدين الإبراهيمي الجديد”، ليقولوا ضمنيا: نحن جميعا من نسل إبراهيم، وكلنا على طريق واحد، دون أن يصرحوا أن الإسلام وحده هو الطريق المستقيم الذي أبقى على جوهر التوحيد.
إنهم يعلمون جيدا أن إبراهيم عليه السلام لم يكن يهوديا ولا نصرانيا، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم:
“ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين”.
هذه الآية وحدها كافية لتهدم كل ما يبنون عليه دعاوى الميراث الإبراهيمي المشترك، فدين إبراهيم هو الإسلام بمعناه الأصيل، الخضوع لله وحده بلا شريك، وهو جوهر ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لا سواه.
ما يفعله الغرب اليوم ليس إلا محاولة ذكية لتخفيف الصدمة الفكرية.
فهم يعلمون أن الإسلام ينتشر بقوة الحجة لا بقوة السيف، وأن ملايين العقول في الغرب بدأت تكتشف أن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي ما زال يحتفظ بنقائه الكامل منذ نزوله.
ولذلك فإن “الدين الإبراهيمي” هو في جوهره اعتراف غير مباشر بأن الإسلام هو الأصل، لكنه اعتراف مشروط بالرفض، كمن يقول: نؤمن أنكم على حق، لكننا لا نريد أن نتبعكم.
إنه الإقرار بالحقيقة مع التمنع عن الخضوع لها، وهذا هو أخطر أنواع الاعتراف، حين يعلم الخصم أنه أمام الحق لكنه يختار المواربة بدل الإيمان.
وحين نقرأ التاريخ بعيون صافية، نرى أن اليهودية كانت دعوة محدودة الزمان والمكان لقوم بعينهم، وأن المسيحية جاءت دعوة روحانية مؤقتة، بينما الإسلام جاء خاتما شاملا يخاطب الإنسانية جمعاء، ويجمع بين الروح والعقل، وبين السماء والأرض.
فلا عجب أن يجد الغرب نفسه اليوم مضطرا إلى إعادة صياغة العلاقة بين الأديان تحت عنوان “الإبراهيمية”، لأن كل طريق بحثوا فيه عن الجذر وجدوا نهايته عند الإسلام.
الإسلام لا يحتاج إلى غطاء جديد أو إلى مشروع سياسي ليقبل، فهو الدين الذي يخاطب الفطرة قبل الفكر، ويخضع العقل قبل العاطفة.
لكن الغرب لا يستطيع أن يعترف بهذه الحقيقة علنا، لأنها تهدم هيمنته الفكرية والسياسية، ولأنها تسقط الصورة التي بناها عن نفسه كمرجعية للحضارة الحديثة.
إنهم يعلمون أن كلما ازداد الناس بحثا عن إبراهيم الحقيقي، ازدادوا قربا من محمد صلى الله عليه وسلم، لأن طريق الإيمان يبدأ من دعوة إبراهيم “أسلمت لرب العالمين”، وينتهي عند شهادة “لا إله إلا الله محمد رسول الله”.
ذلك هو الاعتراف الخفي الذي يحاولون تغليفه بشعارات التعايش، بينما في أعماقهم يدركون أن الدين الذي ظل نقيا دون تحريف ولا تبديل هو الإسلام وحده، وأن كل ما سواه مجرد ظل تلاشى مع مرور الزمن.
فالإبراهيمية التي يتحدثون عنها اليوم ليست مشروع توحيد، بل محاولة تمييع للحقيقة.
لكن الحقيقة لا تميع، لأنها تشرق كل يوم من مكة والمدينة، وتنادي البشرية كلها أن الطريق إلى الله واحد، واضح، لا يلتبس:
دين إبراهيم هو الإسلام، لا غير.
إن أخطر ما يواجه الأمة اليوم ليس السلاح ولا الحروب، بل حرب المفاهيم التي تغلف بالسلام والإنسانية لتبدل المعاني وتذيب الثوابت.
فمن يقبل أن تختزل رسالة الإسلام في إطار بشري مشترك تحت مسمى الإبراهيمية دون تمييز بين الحق والباطل، إنما يفتح الباب لتذويب الهوية وطمس معالم العقيدة التي قامت على الوضوح والتميز لا على التنازل والمجاملة.
إن واجبنا اليوم أن ندرك بوعي أن الحوار لا يعني الذوبان، وأن التسامح لا يعني التنازل، وأن احترام الآخر لا يعني التخلي عن الحق.
فالإسلام لم يأت ليكون جزءا من توليفة فكرية، بل جاء خاتما للرسالات ومهيمنا عليها، يحفظ جوهر التوحيد ويعيد للإنسان توازنه بين السماء والأرض.
فلنحذر أن تبدل أسماء العقيدة تحت شعارات براقة، ولنتذكر أن من يبحث عن دين إبراهيم حقا، سيجده حيث انتهى الوحي:
في الإسلام، دين التوحيد الخالص، الذي لا يبدله زمان ولا يغيره عنوان.
