Nepras ELSalam News

الإستراتيجية وعدم التماثل فى الحروب المعاصرة

بقلم اللواء ا.ح دكتور احمد عبد البر

232

الإستراتيجية وعدم التماثل فى الحروب  المعاصره

بقلم اللواء ا.ح دكتور احمد عبد البر 

 

قراءة مصرية فى تحولات الصراع المسلح
لم تعد الحرب مجرد مواجهة تقليدية بين جيوش منظمة، بل أصبحت ظاهرة مركبة متعددة الأبعاد، تتجاوز المفهوم التقليدى للصراع المسلح، وتعيد تشكيل العلاقة الوطيدة بين القوة والغايات، بين الوسيلة والمفهوم، وبين الفعل ورد الفعل؛ هذا التحول ليس جديداً على العقيدة العسكرية المصرية، التى نشأت على فهم راسخ بأن الحرب ليست مجرد مواجهة مسلحة، بل هى تعبير عن إرادة سياسية تُمارس بالقوة، وتتشكل داخل سياقات إجتماعية وثقافية معقدة؛ فمنذ نشأتها، لم تنظر المؤسسة العسكرية المصرية إلى الحرب بوصفها حدث قتالى منفصل، بل تعاملت معها كمنظومة شاملة، تتداخل فيها عناصر الهوية القومية، والوعى الشعبى، والقرار السيادى، وتُدار وفق منطق إستراتيجى يراعي طبيعة البيئة، وتاريخ الصراع، وموقع الدولة فى المعادلة الإقليمية.
لقد أصبح مصطلح “عدم التماثل” من أكثر المفاهيم تداول فى علوم الحرب المعاصرة، رغم غموضه المفاهيمى وتعدد دلالاته؛ فعدم التماثل لا يقصد به الفارق فى القوة أو الوسائل فقط، بل يشير إلى نمط من التفكير الإستراتيجى يهدف إلى تجاوز التفوق التقليدى للعدو، عبر إستخدام أدوات غير تقليدية، وتكتيكات مرنة، ومسارات غير متوقعة، وهو ما يجعل من عدم التماثل إستراتيجية توظف بحكمة لإرباك الخصم وتوسيع هامش المناورة بما يغير قواعد الإشتباك ويمنح الطرف الأضعف قدرة على التأثير الفعال.
وهنا تبرز عبقرية العقيدة العسكرية المصرية، التى تأسست على مبدأ التوازن بين القوة النظامية والمرونة العملياتية، وعلى إستيعاب طبيعة الصراع كعملية سياسية وإجتماعية وثقافية، لا بوصفها مواجهة ميدانية فحسب؛ فالقوات المسلحة المصرية بتاريخها العريق وتجاربها المتراكمة، تدرك أن الحرب ليست مجرد معركة فى مسرح العمليات، بل هى إختبار شامل لقدرة الدولة على الصمود والتكيف وتحقيق أهداف ومتطابات الأمن القومى.
إن فهم الحرب المعاصرة يتطلب تجاوز الصور النمطية التى رسختها الحروب العالمية، والتى صورت الصراع بوصفه مواجهة حاسمة بين جيوش ضخمة فى ساحات مفتوحة؛ فاليوم تتخذ الحرب أشكال متعددة، منها الحروب الهجينة، وحروب الجيل الرابع، والصراعات غير النظامية، التى تتداخل فيها الشبكات السياسية والإجتماعية والإقتصادية، وتستخدم فيها أدوات التأثير الإعلامى والنفسى، إلى جانب القوة المسلحة؛ وهذا ما يجعل من الإستراتيجية أداة حيوية لفهم الحرب، لأنها تهتم بتحقيق الغايات السياسية عبر إستخدام القوة، أو التهديد بها، فى سياق عدائى متبادل.

الإستراتيجية كما تمارسها القوات المسلحة المصرية، ليست مجرد خطة عملياتية، بل هى رؤية شاملة تُراعى السياق القومى، والبيئة الإقليمية، والتوازنات الدولية؛ وهى تقوم على مبدأ الردع النشط، والقدرة على المناورة وتوظيف عناصر القوة الشاملة للدولة، بما فى ذلك القوة الناعمة، والدبلوماسية الدفاعية، والتكامل بين الأذرع العسكرية والأمنية، وهذا ما يميز العقيدة المصرية، التى لا تنفصل عن التاريخ، ولا تغفل الجغرافيا، ولا تتجاهل الإنسان.
وفى مواجهة أنماط التهديد غير التقليدية، تُدرك القوات المسلحة المصرية أن الرد لا يختزل فى التفوق النيرانى أو الحشد العسكرى فحسب، بل يتطلب فهم عميق لطبيعة الخصم، وتفكيك بنيته الذهنية والإستراتيجية، وحرمانه من القدرة على فرض نمط عملياتى يخدم أهدافه السياسية؛ فسواء تعلق الأمر بجماعات مسلحة غير نظامية تسعى إلى الإستنزاف وإرباك المشهد، أو بمحاولات إسرائيلية لإعادة إنتاج سرديات تاريخية زائفة تزعم حقوق توراتية فى أرض الغير، أو حتى بمخططات تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الديموغرافى فى سيناء تحت غطاء إنسانى أو أمنى، فإن العقيدة المصرية تتعامل مع هذه التهديدات بوصفها محاولات لفرض واقع إستراتيجى جديد، لا يواجه فقط بالقوة، بل بالوعى، والجاهزية، والسيطرة على المبادرة.
إن المزاعم التى يروج لها بعض الساسة الإسرائيليين، بشأن حق تاريخى مزعوم فى أراضى الوطن العربى، لا تُعد مجرد تصريحات عابرة، بل تفهم فى إطار أوسع من محاولات إعادة هندسة الجغرافيا السياسية للمنطقة، وإستغلال الأزمات الفلسطينية لتصديرها إلى الداخل المصرى؛ ومن هنا فإن الإستراتيجية المصرية لا تكتفى بالرد على هذه المزاعم، بل تحبطها من جذورها، عبر تأمين العمق الوطنى، وتضييق مساحة المناورة أمام الخصم، وفرض السيطرة العملياتية التى تُعيد ضبط الإيقاع الإقليمى وفقاً لمتطلبات الأمن القومى المصرى.
فمصر بتاريخها وجغرافيتها ومكانتها، لا تسمح بإعادة إنتاج سيناريوهات التهجير أو التوطين، ولا تقبل بتمرير مشاريع تصفوية تحت أى مسمى، والاستراتيجية المصرية لا تُدار بردود أفعال، بل تُبنى على إستباق التهديد، وإحتواء تداعياته، وتوظيف عناصر القوة الشاملة للدولة، بما يضمن فرض الإرادة القومية، وحماية الأرض، وصون القرار السيادى من أى إختراق أو إبتزاز.
لقد أثبتت التجربة المصرية أن العقيدة العسكرية الوطنية تمتلك من المرونة والصلابة ما يؤهلها للتعامل الفعّال مع أنماط الحرب غير التقليدية، دون التفريط في الثوابت أو الإنجراف وراء نماذج دخيلة؛ فالقوات المسلحة فى مواجهتها للإرهاب وتأمينها للحدود وإدارتها للأزمات، تُطبق إستراتيجية شاملة تجمع بين الحسم العملياتى والإحتواء المجتمعى والتنسيق الأمنى، بما يرسخ الأمن القومى؛ ويقترن ذلك بوعى إستراتيجى عميق يولي أهمية قصوى لإعداد القادة وتطوير الفكر العسكرى، بما يضمن جاهزية دائمة وقدرة على إستيعاب التهديدات وتحييدها وفق رؤية وطنية مستقلة.
إن الحرب المعاصرة بكل تعقيداتها، لا تنكر جوهر الإستراتيجية، بل تُعيد تأكيده، فالتفاوت إستراتيجية، والإستراتيجية هى التفاوت؛ ومن لا يُدرك ذلك، يظل أسير لفهم ساكن، لا يُواكب ديناميكية الصراع، ولا ينتج أثر سياسى يُبرر العنف المستخدم؛ الحرب هى فن السيطرة، والسيطرة هى القدرة على التأثير فى إرادة الخصم، لا على تدميره؛ ومن هنا فإن الإستراتيجية الجيدة ليست تلك التى تُراكم الإنتصارات، بل التى تعيد تشكيل الواقع السياسى بما يحقق الغايات المرجوة، بأقل تكلفة ممكنة وبأكبر قدر من الفعالية.
وختاماً، فإن القوات المسلحة المصرية وهى تواصل تطوير قدراتها، وتعزز جاهزيتها، وترسّخ عقيدتها، تثبت أن الإستراتيجية ليست مجرد نظرية، بل ممارسة قومية، تجسد إرادة الدولة، وتعبر عن روح الأمة، وتحقق الأمن القومى فى زمن تتغير فيه الحروب، لكن تبقى فيه المبادئ راسخة، والهوية واضحة، والرسالة ثابتة (مصر قوية، وقادرة، ومستعدة دائماً).

 

 

 

Leave A Reply

Your email address will not be published.